
بوصلة الابتكار التكنولوجي تتجه أكثر نحو الشرق
في عام 1960، قاد الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي حملة دعائية كبيرة حول “فجوة الصواريخ” و”سباق الفضاء” بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. ولكن الغريم الرئيسي للولايات المتحدة اليوم هو الصين وإحداثيات الصراع لم تعد سباق الفضاء بل هي استراتيجية «صنع في الصين 2025» التي أعلنت الصين إنها ستشرع من خلالها في تطوير صناعات تكنولوجية فائقة جديدة، والتي يخشى الغرب أن تحول بكين إلى «قوة تكنولوجية عظمى»، فيما تعتبر الولايات المتحدة تلك الاستراتيجية مصدر قلق بالغاً وتهديداً مباشراً لأمنها القومي.
وفي عالم الجغرافيا الإلكترونية الذي تلاشت فيه الحدود الفاصلة بين عوالم الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والقدرات الإلكترونية والقوة العسكرية والدفاعية التقليدية، لا يخفى على أحد أن توفر وانتشار التقنيات الرقمية في الوقت الحالي أصبح مؤشراً مهماً على القدرات التنافسية للدول وازدهار اقتصاداتها. إذ تشير إلى ذلك العديد من الدراسات مثل مؤشر الاتصال العالمي والتصنيف العالمي للتنافسية الرقمية. لكن انتقال مركز التكنولوجيا والابتكار من الغرب إلى الشرق بشكل تدريجي على مدار الأعوام الماضية أثار العديد من موجات الخلاف بين الدول، سيما بين القوى الاقتصادية العظمى التي أصبحت قضية ريادة التكنولوجيا الرقمية حلبة تنافس قوي بينها.
ولإيضاح ذلك، نجد أنه وفي عام 2020، تجاوزت الصين الولايات المتحدة في عدد طلبات براءات الاختراع وفقاً لوكالة براءات الاختراع في الأمم المتحدة. كما وصل إنفاق الصين على البحث والتطوير إلى 378 مليار دولار بزيادة قدرها 10%، علاوة على تفوقها على الولايات المتحدة في عدد الأبحاث التي تم إجراؤها في العلوم الطبيعية وفقاً للبيانات التي تم نشرها في الربع الثالث من عام 2020. وفي العام الحالي، تم تصنيف عملاق التقنية هواوي الصينية واحدة من أكبر المؤسسات التي تمتلك براءات اختراع للعام الرابع على التوالي. ونالت هواوي العديد من براءات الاختراع العالمية في تقنيات حديثة مثل الجيل الخامس التي تزايدت أهميتها في ظل تحول المزيد من الأشخاص والمؤسسات والقطاعات إلى الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية وتضاعف حجم البيانات التي يتم انتقالها بين الدول.
وسواء كان ذلك يتم بشكل مقصود أو لا، فقد أصبحت شركات مثل المارد الصيني هواوي محط أنظار القطاع التقني في العالم بفضل التزامها التام وتركيزها المستمر على البحث والتطوير لتقديم ابتكارات جديدة، إذ تعتبر الأبحاث واحدة من الأولويات المهمة في الصين باعتبارها المصدر الأساسي للابتكار الذي يؤدي دوراً مهماً في دعم الاستراتيجيات التنموية في البلاد والذي أكد عليه المؤتمر الشعبي الوطني الذي عُقد في بكين، حيث حددت الصين القطاعات الرئيسية التي ستركز عليها الخطط التنموية الخمسية القادمة بما فيها الذكاء الاصطناعي والمعلومات الكمية، وأتمتة الآلات، والروبوتات، ومعدات الفضاء والطيران، والمعدات البحرية والشحن عالي التقنية، ومعدات النقل الحديثة للسكك الحديدية، والسيارات ذاتية القيادة والمعتمدة على الطاقة الجديدة، ومعدات الطاقة، والمعدات الزراعية، وتطوير الأجهزة العسكرية الجديدة، والمستحضرات الدوائية الحديثة والمنتجات الطبية المتقدمة.
لذا، كان من المتوقع أن يتم استهداف الزخم المتزايد لنجاح أعمال الشركات التقنية الصينية من قِبل الغرب – وتحديداً أمريكا – في محاولة لإبطاء مسيرة ريادتها العالمية واسترداد الريادة منها لأمريكا والغرب التي سادت هذا المجال لقرون متواصلة. وواجهت العديد من الشركات مثل هواوي وزد تي إي ووي تشات وحتى تطبيق تيك توك المزيد من التحديات السياسية وفرضت الولايات المتحدة على بعضها عقوبات تسببت ببطىء نموها وغالباً ما تم ذلك بذريعة الأمن السيبراني. لكن يشير العديد من الخبراء والمحللين إلى أن الهدف الحقيقي للعقوبات هو الحفاظ على التفوق الاقتصادي الغربي وهيمنة الغرب على التكنولوجيا.
وعلى الرغم من عدم تقديم أدلة وإثباتات علمية تؤيد اتهامات الأمن السيبراني، إلا أن الحقيقة المؤسفة هي أن المواقف السياسية المرتبطة بالقضايا التكنولوجية تلعب دوراً سلبياً على مستوى تقييد التطور التقني عالمياً، إذ أن تضييق الخناق على الابتكارات القادمة من الشرق سيحد من جهود العمل المشترك وتبادل المعلومات والخبرات ويؤدي إلى إنشاء شبكات رقمية منعزلة. وفي ظل الجهود العالمية للتغلب على التحديات التي شهدناها في العام الماضي، فإن ما نحتاجه فعلياً خلال الفترة الحالية والمقبلة هو أن نتعاون بشكل أكبر -وليس أقل- في مجال الابتكار المشترك، فالتوجه نحو وضع المزيد من الحواجز والعقبات أمام مستقبل الابتكار التقني لن يفيد مستقبل التنمية الاجتماعية والاقتصادية في أي دولة.
وقد ساهمت سلاسل التوريد المفتوحة وبرامج الابتكار المشتركة بالتعاون مع الشركات الصينية والآسيوية على مدار السنوات الماضية في تعزيز التنمية الوطنية في معظم دول الشرق الأوسط، إذ تعتبر البلدان الآسيوية واحدة من الدول التي تسهم في تعزيز الابتكار التقني على المستوى العالمي. وأهم مافي هذا الأمر أنه من خلال هذه الشراكات، ستتمكن دول الشرق الأوسط من إعداد جيل جديد من الشباب الموهوبين في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات للمساهمة في تطوير مختلف القطاعات في المستقبل. ومن خلال التعاون، يمكن لهذه الدول تحقيق الأهداف المشتركة بما فيها حوكمة وضمان الأمن السيبراني من خلال وضع معايير عالمية متفق عليها يتم إقرارها وفق نهج تعاوني يتسم بالشفافية ويبنى على حقائق وأدلة علمية، لا للميول الجيوسياسية فيه. وبالتوافق الدولي، يمكننا الاعتماد على البنية التحتية الذكية والتقنيات الحديثة مثل الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية لتحسين جودة الحياة، بغض النظر عن مصدر هذه التقنيات.
الإمارات دولة طموحة لا ترضى بديلاً عن النجاح. والتعلم من تجارب الآخرين وتبادل المعرفة والخبرات أحد المحاور الهامة لاستكمال مسيرة النجاح. وتعتبر العديد من المبادرات الدولية للتعاون والابتكار المشترك مثل افتتاح مركز الشفافية العالمي للأمن السيبراني وحماية خصوصية المستخدم الذي دشنته هواوي مؤخراً – وهو الأكبر من نوعه في العالم – واحدة من الأمثلة الحيوية على مد مزيد من جسور التعاون والعمل المشترك بين مختلف أصحاب المصلحة في القطاع التقني للتغلب على التحديات الحالية التي تواجه الأمن السيبراني وتلبية المتطلبات المستقبلية لحوكمة وضمان أمن المعلومات من خلال انتاج مزيد من الابتكارات لعالم يعتمد على التقنيات الحديثة بشكل متزايد.